إذن فى وقت مثل هذا ومرحلة مثل تلك سأل المصريون أنفسهم نفس السؤال: إحنا رايحين على فين ونعمل إيه بالظبط؟
داخ من داخ وتلخبط من تلخبط وتكعبل من تكعبل أمام هذا السؤال بعد ثورة يوليو 1952، وها هم أولاء الدائخون المتلخبطون المتكعبلون أنفسهم يظهرون فى حيرة أبنائهم وأحفادهم فى يوليو 2011 تجاه مستقبل الثورة وإلى أن نمضى!
توفيق الحكيم الأديب الرائد والمعلم الكبير لخص لنا مشكلة هذا الشعب حين يحتار فى الاختيار بعد الثورة وخلال المراحل الانتقالية بهذه المسرحية (رحلة قطار)، السائق يختلف مع مساعده هل الإشارة حمراء ليقف القطار أم خضراء ليمر، ولأن هذا الاختلاف يودى فى داهية، فقد بدآ (السائق ومساعده) سؤال ركاب القطار، والمذهل أنهم اختلفوا أيضا، ناس تقول حمرا وناس تقول خضرا، بعد جدل وقلق قرر السائق مع مساعده المشى عدة كيلومترات حتى كشك السيمافور لمعرفة الحقيقة وإخبار الركاب بها..
بينما كان السائق ومساعده غائبين كان الصخب يعلو ويشتد الضجيج وترتفع أصوات الغناء والرقص من كل نوع، وتختلط فى دوامة من ذلك الهوس والجنون فى جميع العربات.. وهى مظاهر التوتر والخوف من المجهول، وعندئذ يظهر السائق وخلفه مساعده (الوقاد) عائدين، فيخف الحاضرون لاستقبالهما.
الجميع: (صائحين) خيرًا؟!
السائق: لا شىء.
الجميع: (فى دهشة) لا شىء؟!
الوقاد: نعم، لا شىء.
الجميع: ماذا تقولون؟!
السائق: لا يوجد شىء.
الجميع: لا يوجد شىء هناك؟!
السائق: لا يوجد كشك.
الوقاد: لا يوجد سيمافور.
السائق: لا توجد إشارات.
الوقاد: لم نجد أى عامل ولا موظف.
الجميع: (فى دهشة) ما هذا الكلام؟!
السائق: هذا ما وجدناه.
الوقاد: هذه هى الحقيقة.
السائق: وجدنا بالطبع الكشك ولكنه...
الوقاد: ولكنه مهجور.. ونوافذه مهشمة.
السائق: عاصفة الأمس حطمته.. إنه أنقاض.. مجرد أنقاض.
الجميع: مجرد أنقاض!
الوقاد: والسيمافور كذلك.
السائق: جرفته العاصفة.. ألقت به على الأرض.. وهشمت مصابيحه.
الجميع: هشمت مصابيحه؟ إذن… إذن…
راكب: إذن لم يكن هناك إشارات؟
السائق: ما دام السيمافور لا يعمل.
راكب: لم تكن هناك ألوان إذن؟
الوقاد: ما دامت المصابيح مهشمة.
راكب: وكيف رأينا إذن اللون الأحمر؟
راكب: الأخضر؟
السائق: اسألوا أنفسكم!
الجميع: (للسائق) وأنت؟
السائق: أنا أيضا أسأل نفسى من ساعتها.
الجميع: (للوقاد) وأنت؟
الوقاد: مثلكم جميعا.
راكب: نحن جميعا قد رأينا ألوانا.. فلتكن حمراء أو خضراء.. ولكنها ألوان على كل حال.. قد رأيناها بأعيننا.. هل هناك شك فى ذلك؟!
الجميع: مطلقا.. مطلقا.
راكب: كيف رأينا تلك الألوان إذن؟
راكب: هذا هو الشىء المحير. والنتيجة الآن؟
السائق: النتيجة.. أنه ما دامت لا توجد إشارات معينة فمعنى هذا أن السكة مفتوحة.
الوقاد: ولماذا لا نقول العكس.. إنه ما دامت لا توجد إشارات تفيد الأمان فالسكة مقفولة؟
السائق: اسمع.. أنا لم أعد مستعدا لاستئناف المناقشات من جديد، ما دمنا تحققنا من عدم وجود إشارات أمامنا فالطريق إذن حر.. ويجب أن نسير.
الوقاد: ومن أدرانا؟ ربما العاصفة قد سدت الطريق أمامنا.
السائق: لا تنس أن الإكسبريس قادم من خلفنا.
راكب: أنا من رأيى الوقوف والانتظار.
السائق: الوقوف والانتظار حتى يدهمنا الإكسبريس؟
يجب أن نتحرك فى الحال.
الوقاد: فى تحركنا مجازفة.
السائق: وفى وقوفنا أيضا مجازفة.
(تختلط كلمات السير والوقوف فى أفواه الجميع اختلاطا مزعجا تقابله عن بعد أصوات الغناء والرقص فى العربات وينتج عن ذلك كله صخب جنونى).
لعل نفس الأسئلة والمشاعر التى مر بها ركاب (شعب) 1952هى نفس أسئلة ومشاعر ركاب (شعب) 2011، حيرة طبيعية إذن وارتباك مفهوم وتشوش بديهى واختلافات مطلوبة وخيالات مشروعة، واحتدام متوقع…
طيب والحل؟
الحل كما طرحه الحكيم فى مسرحيته هو ربما ما جرى حرفيا فى عصر 52، ولعله الحل الوحيد مع تغييرات مهمة فى 2011، نشوف الأول حل الحكيم:
السائق: (فجأة يصرخ ويصفر ويحرك ذراعيه كالقاطرة السائرة) تريك تراك تريك تراك تريك تراك تريك تراك تريك تريك تريك.
الجميع: (ملتفتين إليه) انظروا! انظروا! ماذا يفعل؟!
(السائق يقفز إلى القاطرة ويطلق صفارتها طويلا.. إيذانا بالسير، وعندئذ يهرع الجميع بحركة غريزية يتسلقون القطار...).
وينزل الستار.
لا بد من قائد يقرر ويبادر باختيار طريق يخوضه ويسير وراءه من يريد، علما بأنه قد يكون الطريق الخطأ لكنه الطريق الذى له قائد ولديه حلم!
كان هو جمال عبد الناصر بعد 1952، ويجب أن لا يكون فردا ولا شخصا ولا عسكريا فى عصر 2011، بل مجموعة تحمل فكرة وطليعة تحلم حلما، تقوم وتقرر أنها زهدت فى هذا الجدل وتمضى لتحرك القطار.. وسيصعد إليه الركاب جميعا متى صدقوا حماسها وإصرارها.. تراك تريك تراك تريك!
0 Comments:
إرسال تعليق