يوما ما ستتطور صناعة الصحف تكنولوجيا، وسيكون بمقدور كل كاتب أن يستخدم النانو تكنولوجى ليضع قبل كل مقالة ملخصا لما سبق أن كتبه فى موضوع مقالته، لكى يكفى نفسه شر القارئ الكسلان الذى لا يحب التثبت من الأرشيف قبل أن يتهم كاتبا ما بأنه انقلب على ذاته، لا أجد مشكلة فى الانقلاب على الذات إذا جاء فى إطار مراجعة الإنسان أفكاره ومواقفه وتذكيره نفسه وقارئه بها، لكننى أجد مشكلة كبيرة مع الذين يريحهم تصنيف الآخرين ووضعهم فى قوالب جاهزة، لكى يمنعوا أنفسهم من مجرد التفكير فى الآراء التى تختلف معهم. أقول هذا بعد أن أرسل إلىّ أكثر من قارئ كريم يلاحظ أننى غيرت موقفى فى الفترة الأخيرة وأصبحت أركز كثيرا على أهمية الانتخابات. وسأرد على ملاحظتهم اللئيمة بإعادة نشر فقرات من (اصطباحة) نشرتها يوم 22 مارس الماضى بعد أيام من إعلان نتيجة الاستفتاء وكان عنوانها (انزل إلى الشارع) وكان بودى أن أنشرها كاملة لكن المساحة لن تتسع للأسف الشديد لذلك أنشر مقتطفات منها كنت أتمنى أن لا تكون صالحة للنشر اليوم، لكنها ما زالت كذلك للأسف الشديد:
لا نستطيع أن ننكر أن لدينا ملايين من أبناء مصر يمتلكون تصورا مختلفا لخارطة الطريق التى يجب أن يكون عليها العمل فى الفترة القادمة، ولو لم ندرك ذلك سريعا ونبدأ فى التعامل معه، فإن الخسارة ستكون فادحة فى كل الانتخابات القادمة، وسيشهد التاريخ الإنسانى أغرب حالة ثورية على الإطلاق، ثوار يغيرون مصير بلاد لكى يتحولوا إلى معارضين منبوذين لأنهم لم يجدوا وسيلة ناجعة للتواصل مع الناس، ولأنهم بفضل الرعونة والانفلات وعدم تحديد الأولويات وعدم قراءة الواقع جيدا، حوّلوا الأغلبية الصامتة إلى أغلبية تعمل ضدهم بنفس الآليات التى دفعوا حياتهم ثمنا من أجل تحقيقها.
صحيح أنه لم يمر أكثر من يومين على إعلان نتيجة الاستفتاء، لكننى أعتقد أن كثيرين ممن أعرفهم وأتابعهم أضاعوا وقتا طويلا فى البكاء على اللبن المسكوب داخل لجان الاستفتاء، فى أيام نحتاج فيها إلى كل فيمتو ثانية من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، للأسف يريد البعض أن يحول نفسه إلى أضحوكة بالإصرار على الحديث عن تزوير شامل أو تواطؤ سافر، وما إلى ذلك من آراء غريبة لن تؤدى إلا إلى مزيد من الخسارة لدى الغالبية العظمى من الناس الذين يقلقون من كل النبرات التصعيدية التى تتطاول على الجيش، أو الدعوات غير الواقعية التى لا تعرف طبيعة الواقع المجتمعى الذى تركه مبارك، فضلا عن عدم امتلاكها رؤية شاملة لمواقف قوى كثيرة فى المنطقة، بعضها يبدو صديقا وأخا، ومع ذلك فهو يضع مهمة إفشال الثورة على عاتقه، ليس كراهية فينا، بل حبا فى مصالحه الداخلية، وفى فمى ماء، كما يقول العرب، لذلك أترك التفسير لفطنتك.
... لذلك من كل قلبى أتمنى أن يهدأ الذين يلطمون ويولولون وهم يتحدثون عن الخراب الذى سيحيق بالبلاد بسبب نتائج الاستفتاء، خصوصا أن كثيرين من هؤلاء لم يكونوا يرون فى حسنى مبارك أصلا خرابا حل بالبلاد، والأرشيف موجود فلا تضطرونا لفتحه نرجوكم، ومن يحب النبى، أيا كان نبيه، عليه أن يزق عجلة الوطن إلى الأمام. صحيح أننى كنت من الذين يحلمون بأن يلتف المصريون حول (لا) لبناء وطن كبير بقدر تضحيات الثوار، لكننى الآن أعتقد أن ذلك يمكن أن يتحقق أيضا بجهد أكبر وفى وقت أطول وبنتيجة أقل من التى كنت أحلم بها، ولذلك لن أضيع وقتى فى نظريات مؤامرة بلهاء أعلم أنها غير حقيقية، وسأبارك عودة الجيش إلى الثكنات لكى نكسب وجها مدنيا للدولة، ويبقى أمامنا نضال طويل للحصول على قلب مدنى للدولة بعيدا عن تسخير الدين فى الصراعات السياسية، وهو صراع لن يكون سهلا فى ظل أفكار مشوشة تدعى أن كل من يطالب بذلك هو علمانى كافر ملحد. ولذلك علينا بدءا من الآن أن نضغط بقوة من أجل إصدار تشريعات قاطعة وصارمة تحظر العمل الحزبى على أساس دينى، وتحظر استخدام الدين فى الشعارات الانتخابية، وتوقع على من يفعل ذلك عقوبات صارمة، وتكفل آليات رقابية للمجتمع المدنى لمراقبة تحقيق ذلك، لكى لا نشهد أكبر سوق للمتاجرة بالدين فى تاريخ مصر يشترك فيها العاطل بالباطل وينجح فيها الحاج فلان تاجر المخدرات مع الداعية فلان تاجر الأفكار مع الشيخ فلان صاحب النيات المخلصة، ويخسر الذين يعلمون أن السياسى لا يمكن أن يكون ممثلا لله، لأن الله عز وجل ليس مِلكا لأحد.
... علينا أن ندرك أن نتيجة الاستفتاء كشفت أن كل المرشحين الرئاسيين الذين فرحوا بأنفسهم وفرحنا بهم لا يمتلكون تأثيرا طاغيا فى الشارع، وعلى هؤلاء الآن أن يواجهوا لحظة الحقيقة ويتخلوا عن مشاريعهم الفردية من أجل عمل توافقى ينسقون فيه مع بعضهم بدلا من أن يخسروا كل شىء، خصوصا أن الانتخابات القادمة لن تكون الأخيرة، ويمكن لمن لم يصبح رئيسا فيها أن يكون رئيسا فى التى بعدها. إذا اتسع صدرك حتى الآن لكل تمنياتى دعنى أتمنى على كل الذين شاركوا فى الثورة أن يتوقفوا فورا عن موضة تشكيل الأحزاب التى أصبحت تفقس حزبا كل يوم، ويدركوا أن الواقع الآن يتطلب آلية مختلفة هى فى رأيى توحيد كل القوى الوطنية التى شاركت فى الثورة تحت إطار واحد، وليكن مثلا تحت اسم (ائتلاف الثورة)، وهو الاسم الذى أصبح له شعبية فى الشارع إلى حد كبير، ومن الذكاء استغلال هذا الاسم مع توسيع إطاره ليضم كل العناصر الوطنية التى تحظى بقبول شعبى واسع لتشكيل قائمة موحدة تحمل اسم (قائمة الثورة) من الإسكندرية إلى أسوان، ويراعى فى اختيار عناصرها أن تكون لهم قدرة على التواصل مع بسطاء الناس فى الشارع وأن لا يكونوا من المحلقين فكريا الذين كلما فتحوا أفواههم أغلقت قلوب الناس فى وجوههم.
سين سؤال: هل تعود روح الميدان التى جعلت الناس يتناسون خلافاتهم الفكرية والسياسية ويجتمعون على هدف واحد، أم ينجرف الجميع وراء اعتقاد كل منهم أنه يملك أرضية عريضة فى الشارع اعتمادا على رقم أعضاء جروبه على الفيسبوك أو متابعيه على التويتر أو الحاضرين ندواته فى ساقية الصاوى؟ للأسف على إجابة سؤال بايخ كهذا يتوقف مصير الثورة، والله أعلم.
0 Comments:
إرسال تعليق